Thursday, July 05, 2007

بنت من شبرا - الجزء الثالث

طول عمرى عندى ولع خاص بتاريخ الجغرافيا ... أو جغرافية التاريخ ... القصص اللى ورا الأماكن ... قصص ناس عاشت فى البيوت والشوارع والمحلات ... أكيد سابت بصمات ... جزء ليس بيسير من ذكرياتها متعلق زى ذرات الغبار على سطح الأماكن دى ...

وفيما يلى مجموعة خواطر
عن أماكن وأشخاص
شوارع وحواديت
ناس عشت وسطهم
وعاشوا جوايا
حياتهم نفسها
شكلتنى
لونتنى
خلتنى أنا

أتكلم عن شبرا
مسقط رأسى ومهد طفولتى وملعب صباى
لقطات أراها فى خيالى بالأبيض والأسود
زى أفلام الستينات
زى صور أبى وأمى فى شبابهم
ومع ذلك فهى لقطات لها لون وطعم ورائحة
لقطات من زمن تانىبحس أنه زمن واحدة تانية مش أنا
-------------------------------------------
شبرا يعنى عم حمدان ... راجل طويل .. شديد النحافة ... كان بيتهايألى كل سنة بتعدى بتشيل من جسمه شوية ... تجاعيد الزمن حفرت أخاديد عميقة فى وشه الشديد السمرة بحد أصبح معه تحديد عمره الحقيقى شبه مستحيل ... كان على طول لابس بنطلون غامق وقميص من نفس اللون طويل الكمين ألا انه دايما مشمرهم حتى المرفقين ...ويربط شال أبيض حول رأسه على طريقة الصعايدة ... وعم حمدان ملهوش شغلانة محددة ... ألا انه دايما هناك فى شارعنا ... زمان كان بينام فى حجرة صغيرة لا تزيد متر فى مترين وهى ملك عم سيد بتاع القصب بيستخدمها كمخزن للقصب ... ويبدو انه كان بيعطف على عم حمدان ويسيبه ينام فيها آخر الليل ... لكن بيعمل ايه بقى طول اليوم معرفش ... لو كانت كلمة "أرزقى" تطلق على واحد موجود للى محتاجه ... يمسح محل من محلات الشارع ... يساعد فى تحميل بضاعة ... يساعدنى أو يساعد أمى فى حمل الشنط الثقيلة ... أكيد عم حمدان يستحق لقب "أرزقى" عن جدارة.


شبرا يعنى عم عباس الفكهانى اللى مازال بيقعد قدام بيتنا فى شارع مسرة ويحتل مدخل العمارة بأقفاص الفاكهة ... السكان غلبوا شكوى وخناق معاه بسبب عدم نظافة المدخل وامتلائه بالنمل والحشرات ... حتى ان أمى كانت عاملة مقاطعة للمنتجات العباسية بسبب الموضوع ده ... أما عم يحيى بقى ... فده فكهانى تانى ... برضه بيقعد على نفس الرصيف لكن قبل العمارة شوية ... وعم يحيى ظهر فى المنطقة وأنا عندى ييجى 13 سنة كده ... وكان صغير السن ... يعنى أواخر التلاتينات كده ... بشوش الوجه دائم الابتسامة ... وذوق مع كل الناس فكلهم بيحبوه ... وكان أصم ... مبيسمعش ... يظهر انه مولود كده لانه بيتكلم لكن بتقل فى لسانه ... كانت أمى بتحبه قوى ودايما تشترى منه وتعطف عليه ... تتكلم معه بالاشارة ... اشارة بإصبعيها السبابة والوسطى تتبعها اشارة بالسبابة إلى قفص الفاكهة أمامه كانت تعنى 2 كيلو من هذا النوع ... وكان عم يحيى خدوما ... لو يوم شاف أمى أو أنا شايلين حاجة تقيلة يجرى ياخدها ويطلعهلنا لحد باب البيت ثم ينزل جرى قبل ان نستطيع حتى ان نقول "شكرا" ... أتعجب من مثل هذه الشخصية ... شهامته و"جدعنته" ... ابن بلد صحيح ... فى زمن هجر أهله البلد نفسها من زماااااااااان .... اتذكره عندما يقوم عامل النظافة فى عمارتنا بمدينة نصر بحمل الأشياء لأمى – فى "الأسانسير كمان – ثم يقف متطنطعاً أمام الباب حتى يأخذ ثمن "الشاى
شبرا يعنى مدبولى قاسم ... ولو متعرفش مين مدبولى قاسم تبقى أكيد مش شبراوى ... أشهر محل آيس كريم – جيلاتى – فى شبرا ... الناس عنده أمم بالليل ... مع أنه مبيعملش جيلاتى عجبة يعنى ... آيس كريم عادى جداً ... مكرم أو عزة أو جيلاتى لبنان فى الإسكندرية أحشن منه مليون مرة ... بس الناس فى شبرا اتعودت عليه كجزء من التمشية الليلية اليومية ... كنت أنزل مع أمى أو مع أبى ... ابداً مش مع الاتنين ... معرفش ليه بس كان دايماً يا دى يا ده ... تاخد الشخليلة وللا اليويو؟ ... المهم ... نتمشى لحد السوبر ماركت فى شارع يلبغا – اسم عجيب آخر من أسامى شبرا - ... زمان كان سوبر ماركت ايدج مارت ... قفل وفتح مكانه وحتى الآن أولاد رجب .... نشترى البقالة ثم نقاتل وسط جحافل مريدى جيلاتى مدبولى قاسم للحصول على كوون الجيلاتى ... ثم نآخذ طريق العودة ... نمر ببائع الذرة المشوية أمام جراج مدرسة التوفيقية فنشترى 3 كيزان ذرة لأسرتنا الثلاثية ... ودمتم ... انتهت الليلة ولازم ادخل أنام عشان أصحى بدرى عندى مدرسة الصبح ..

والصحيان فى شبرا مختلف ... فهو مصحوب بصوت بائع الفول والبليلة اللى بيعدى الصبح بدرى بندائه المميز "ايوه الفول والبليلة السوخننننة " ... يتبعه صوت السلام الوطنى القادم من مكبرات الصوت لمدرسة التوفيقية التى تستطيع لمحها من بعييد من بلكونتنا فى مسرة حيث لا يحجبها عنا سوى صف من المحلات المنخفضة الارتفاع
ومن ضمن خليط الأصوات العالق بذاكرتى عن صباح كل يوم فى شبرا .. المقدمة الموسيقية المميزة لبرنامج الشرق الأوسط اللى كان فيه مذيع ومذيعة بيكلموا بعض .. "صباحك معطر" ... "مزهزه منوّر" .... يتخللهم قطع موسيقية زى أغنية فرقة رضا "الجنة فى أرضنا ... حلاوة ... حلاوة ... حلاوة شمسناااا" ... وتنهيها المذيعة بالجملة الشهيرة "بصبح عليك" ... ياه ه ه ه ... إزاى أشياء بسيطة قد لا تعنى لك أى شىء فى وقتها ... مثل البرنامج ده ... تتحول إلى جزء لا يتجزاء من ذكرياتك ... لون من ألوان صورك القديمة ... رائحة تشمها وتتغلغل فى كيانك كلما تذكرت تلك الأيام؟

على ذكر بياع البليلة وطعم الذكريات... ليالى الشتاء فى شبرا لها طعم البليلة السخنة ... كنت أمسك السلطانية أتدفى فيها لغاية متبرد شوية وأقدر أكلها ... ونفس الليالى لها طعم أغنية ... أغنية قديمة تنبعث من المسجل الصغير بحجرة نومى ... وفى دفء الدفاية الكهربائية الصغيرة ينبعث صوت عبد الحليم ... "فاتت جنبنا فاتت ... أنا وهو" ... مش عارفة ليه الليلة دى بالذات فاكراها كويس ...

نرجع لموضوع الصحيان بدرى ... طقوس الصباح فى بيتنا لم ولا تشمل وجبة إفطار ... أنا أصحى بالعافية قبل جرس المدرسة بنصف ساعة وأهرول فى كل الاتجاهات ألتقط مكونات اليونيفورم المختلفة ... القميص الأبيض ... "بابا كاواهولك آهوه" ... الكرافتة ... "ماما, فى شراب نضيف؟ " ... والجزمة ... "مش قلتلك تلمعيها من بالليل؟" ... كل يوم نفس الحوار ... ماما بقى بتنزل قبلى تلحق الباص بتاع الشغل ... وبابا براحته ... آخر واحد بينزل ... عشان كده مفيش مجال ان أى حد فينا يفطر أو يفكر فى الأكل أصلاً وسط المعمعة الصباحية دى ... كنت باكتفى بالسندويتشات اللى أمى بتعملها ... ده فى الأيام العادية ... أيام "الدوام" زى مبيقولوا فى دول الخليج ... أما يوم الجمعة بقى فده ليه طقوس مختلفة ... لازم البخور الصبح بدرى ريحته تصحينى على آلام جيوبى الأنفية المتهيجة ... لكن كنت برضه بحبه ... بعتبره جزء من روح يوم الجمعة ... ثم طقوس تحضير الفطار ... فول وطعمية وبيض وساعات بصل أخضر ... وبعدين بابا يقعد فى كرسيه الهزاز يقرأ الجرنال مع كوباية الشاى باللبن – "الشوب" زى ما كان ينده على ماما فتتوجه إلى المطبخ لتحضيره

شبرا يعنى كنيسة العدرة مسرة – السيدة العذراء ... لكن الناس حدانا بتنطق الاسم كده – كنت أصحى كل يوم أحد (إجازتى الاسبوعية) على صوت دقات أجراسها ... اتعودت عليه ... وكل ما بسمع جرس كنيسة دلوقتى افتكر شارعنا وأشم رائحة صباح الأحد فى بيتنا ... والست اللى ساكنة تحتينا ... أم خلف – الله يرحمها – كانت تشغل القداس ... مش عارفة كان راديو وللا كاسيت ... صوته كان بيوصلنا من شباك كبير فى وسط الصالة كان يطل على باحة خلفية لشقتها – هى فى الدور الأرضى وإحنا فى الدور الأول - ... كانت روح حلوة فى شبرا ... ناس تشغل قرآن ... ناس تشغل قداس ... وكله عايش ومتعايش مع كله .... عمرنا ما سمعنا كلام من نوع: ده مسيحى وده مسلم ... كل واحد فى حاله ومفيش غير الجيرة الحلوة والعشرة الطيبة ... نفس الجيرة اللى تسأل عليك لحد دلوقتى ويهمهم أخبارك ... ولو زرت شقتك القديمة يبعتولك الحاجة الساقعة ترحيباً بيك ... ويفضلوا يسألوا "مش عايز حاجة؟ " ... "مش محتاجين مساعدة؟" ... فين ده من عمارات مدينة نصر ... بقالى فيها 3 سنين ومعرفش حد من الجيران ولا حد منهم يعرفنى ... ويبقى كتر خير الدنيا لو حد بص فى وشك فى الأسانسير وأنتو نازلين سوا وقالك صباح الخير! ... مع ان الزمن هو الزمن والبلد هى البلد ... لكن فى المعاملات الانسنية تفصلنا قرون وقرون طويلة عن حياة شبرا

وشبرا يعنى أم سناء ... جارتنا التانية اللى فى الدور الأرضى برضه ... الشقة المواجهة لشقة الست أم خلف ... بحيث تشكلان ثنائيا متناغم الثقافة وأسلوب الحياة ... فكلتا المرأتان صعيديتان ... وان كان لكل منهما قصة مختلفة ... الست أم سناء صعيدية جدعة ... تزوجت من الشاويش مكرم فى سن صغيرة ... راجل طيب وفى حاله زى مبيقولوا ... مات قبل ان نترك شبرا بحوالى 5 سنوات ... والست أم سناء جابت منه 3 بنات وولد ... أكبرهم سناء وأصغرهم رانده التلى كانت فى مثل عمرى تقريباً ... والولد هو مشمش ... كان هذا اسمه وظل كذلك حتى بعد زواجه ... اسمه الأصلى "شفيق" على اسم جده لأبيه ... لكن كما هو الحال مع معظم المصريين ... كان اسم الدلع "مشمش" هو المتعارف عليه حتى ان كثير من الجيران لا يعرفون اسمه الحقيقى إطلاقا
والست أم سناء يا عينى الزمن قضى عليها تماماً ... قليلة الحجم شديدة النحول بشكل مثير للشفقة ... تعانى من ربو مزمن ... تدفع العائلة البسيطة مبلغ غير زهيد ثمناً للبخاخة اتى تلازم يديها المعروقة المرتعشة ليلاً ونهاراً ... وفى أيام الصيف الحارة ... تجد الست أم سناء ... وربما بعض أفراد عائلتها التى ازدادت مع الأيام بوجود أزواج وزوجات الأبناء وعدد كبير من الأحفاد ... تجدهم يجلسون بجوار مدخل العمارة طلبا للهواء وهربا من الشقة التى بلا نوافذ أو بلكونات ...

وبلكونتنا إحنا الخلفية تطل على ساحتين بيننا وبين العمارات الخلفية ... ساحة تملكها الست أم سناء ... وساحة تملكها الست أم خلف ... وكلتا الساحتين تحولتا بفضل جهود السيدتان الصعيديتان إلى حظيرتين للدواجن ... فباعتبارهم صعايدة ... تعودوا على أكل البيض البلدى الصابح ... ولما الفراخ تكبر يدبحوهم وياكلوهم ... فراخ بلدى طازة ... ويشتروا كتاكيت جديدة يربوها ... وهكذا.

أما الست أم خلف ... فدى بقى ليها قصة ولا الأفلام العربى ... صعيدية هى برضه ... كما تشبه الست أم سناء جسمانياً ... نفس النحول الشديدة والبنية الضعيفة ... وبرضه اتجوزت فى سن صغير جداً ... لكن حدثت مشكلة خطيرة ... فزوجها قتل فى قضية ثأر ... واضطرت الست أم خلف تهرب فى جنح الليل بابنها الرضيع إلى القاهرة ... خوفاً عليه من ان يقتل ايضاً مثل أبيه ...
وعاشت أم خلف فى الشقة اللى تحت دى ... بمفردها ... قاطعة جميع صلتها بأهلها ... وكبر خلف ... وهاجر ايطاليا ... وبقى صاحب مطعم هناك ... اتجوز ايطالية جاب منها بنت كانت تقريباً فى مثل عمرى ... وخلف كان يزور أمه كل فين وفين ... ومرة ... وأنا عندى حوالى 15 سنة ... رجع خلف فى زيارة طويلة ... واتخانق مع أمه خناقة جامدة ... لأنه كان بيبعتلها فلوس عشان تجدد الشقة ورجع لقاها زى ما هى ... والفراخ زى ما هى ... كان عايزها كمان ترمى الفراخ اللى كانت بتربيها وتنضف المكان ...
خلف ده أنا عمرى ما شفته ... لكن تخيلته ضخم الجثة غليظ الملامح ... لأنه صوته كان شديد الغلظة عالى النبرات ... كنا تقريباً بنسمع كل كلامه مع أمه ... وكان عنده عادة سيئة جداً ... كان بيشتم طول الوقت ... يقول لأمه "يا بنت ..." ... والعجيب أنه كان بيكمل الجملة بكلام حنين مثل "قلقانى عليكى" ... وهى كانت تبكى بصوتها الضعيف الأقرب إلى النواح وتقول له "متسبنيش" ... ماتت الست أم خلف بعد أقل من سنة من الكلام ده ... والشقة دلوقتى فاضية ... محدش بقى يسمع صوتها المبحوح وهى بتنده على بنت أخوها اللى ساعات كانت بتقعد معاها ... تنده بلهجتها الصعيدية وبنغمة مميزة "يا بت يا مونننننننييييييييى" ... أو صوتها وهى بتشتم الفراخ وتزعقلها ... كانت دى تسليتها الوحيدة فى وحدتها ... الصراحة عمرنا ما اشتكينا منها غير أن الفراخ كانت ريحتها مضيقانا ... وكمان أمى كانت تقول أن عنيها وحشة ... حسودة يعنى ... أنا فاكرة انها فعلاً كانت لما تبص تدقق أوى فى الحاجة أو فى الشخص اللى قدامها ... كنت باحس انى عايزة اطلع أجرى من قدامها ... لأ ... أنا فعلا كنت بطلع السلم جرى لو يوم لقيتها واقفة على باب شقتها ... لكن تعاطفت جداً مع قصتها ... قصة خلف ... وأم خلف
البقية فى الحلقة القادمة بإذن الله