Saturday, October 18, 2008

فى هذه اللحظة


تنعكس على وجهى الأضواء الزرقاء التى تدور بجنون فوق سطح سيارتى اسعاف الطرق السريعة اللتان
تتسابقان أمامنا على الطريق الغارق فى الظلام ... اشيعها بنظرات قلقة وهى تمضى الى موقع حادث لابد قد وقع غير بعيد عن موقعنا الآن

بالفعل ... لم ينقض وقت طويل حتى وجدنا انفسنا أمام حشد من السيارات يسد الطريق كله معطيا اشارات انتظار بدت فى تفاوت نبضاتها الصفراء انعكاسا لنبضات قلبى المرتجف

ها أنا ذا أقف فى لحظة من الزمن هى اشد ما تكون قربا من لحظة غيرت تاريخ بضعة من البشر الى الأبد ... فى هذه اللحظة هناك طفل قد تيتم بفقد أمه أو أبيه أو كلاهما ... فى هذه اللحظة هناك امرأة ترملت ... فى هذه اللحظة هناك أم أو أب فقدا ابنهما أو ابنتهما ولن يسمعا كلمة "أمى" او "ابى" مرة أخرى... فى هذه اللحظة هناك شخص لن يشيخ ابدا ... لعله بعده ما صار أبا أو جدا ولن يكون ابدا ... لن يضيف الى هذه الدنيا نسلا جديدا على أى حال ... فى هذه اللحظة انطوى ذكر شخص ما من العالم ... فى هذه اللحظة هناك انسان تعلو وجهه ابتسامة واسعة ستفارقه لفترة طويلة بعد ان يتلقى خبر فقد عزيز له فى هذه الليلة بالذات ... فى هذه اللحظة هناك مكتب سيخلو من شاغره فى صباح يوم العمل القادم ... فى هذه اللحظة هناك سرير لن يرقد عليه صاحبه مرة أخرى ... فى هذه اللحظة هناك قيد يرقد مهملا فى احد المكاتب الحكومية ينتظر الاستخراج ويحمل عنوان "شهادة وفاة" ... فى هذه اللحظة - على الأقل بالنسبة لمن يعرف ضحايا ذلك الحادث - كل شىء قد تغير الى الأبد

والأهم من هذا كله ... وهل هناك أفجع من كل هذه؟ سألت نفسى ووجدتى أجيبها بكل بساطة: نعم ... الأهم انه فى هذه اللحظة بالذات هناك من عرف الحقيقة ... الحقيقة التى تحيرنى وتثير فى جسدى قشعريرة وتزرع الآلاف من علامات الاستفهام فى عقلى الذى لا يهمد ابداً ... حقيقة ما بعد الموت ... الحقيقة التى هى ملخص حياتى وحياتى أى من العالمين ... ماذا يريد منى الله؟ لماذا خلقت؟ حتى ان كنت اعرف لماذا خلقت ... اترانى أقوم بدورى هذا فى الحياة كما يجب ام ترانى حدت عن طريق الصواب؟ وماذا لو أتانى الموت بغتة كهذه اللحظة؟ هل أكون قد اكملت مهمتى أم فشلت فيها؟ لماذا اتكبر على الموت وأنا من أشاهد الآن بأم عينى كيف تنتهى الحياة فى أقل من لحظة؟ بل ربما كان يفصلنى عن أن اصبح جزء من هذا الحادث نفسه بضع دقائق لا أكثر وأنا أسير على نفس الطريق؟ لماذا اقنع نفسى دائما ان "مثل هذه الأشياء تحدث للآخرين"؟ وما يمنعها ان تحدث لى أنا وأنا ما أنا ... مجرد واحدة من ملايين البشر؟ لماذا يغرّنى شبابى وأتصور ان أمامى عشرات السنوات لأغير ما أريد تغييره ولأعرف ما أريد معرفته ولأحدث التأثير الذى أريد ان أحدثه؟ وما هو ذلك التأثير الذى سأتركه خلفى فى هذا العالم ؟... أنا التى لم أربى طفلا ولم اتمكن بعد من تغير العالم عن طريقه ... اليس اطفالنا هم التغيير الذى نحدثه فى مستقبلنا؟ وهل سعيت وصدقت السعى ليكون لى دور مختلف مساو فى التأثير على هذا المستقبل ان لم يكن مقدرا لى ان أكون أما؟ وما هى حصيلة تلك السنوات السادسة والعشرون الماضية من حياتى؟ هل استفدت شيئا مما علمتى الحياة أو هل أفدت بها من حولى؟ أم ترانى حين تحين لحظة موتى أنا أكون كالحمار يحمل أسفاراً؟

تدوى كل هذه الأفكار بين جنبات رأسى فتطغى على صوت كاسيت السيارة الذى يدوى بدوره بأغنية ما عن الحب أو الكره أو ما شبه ... أفقت فجأة وأنا أشعر بمدى تناقض الأصوات داخل وخارج رأسى ... وارهقتنى نبضات قلبى المتقافزة فاردت ان استمع للقرآن عله يهدئنى ... لكن ما ان وضعت شريط القرآن فى الكاسيت حتى انطلق القارىء مرتلا هذه الكلمات التى ما زادتنى الا اضطرابا ... وانطقلت الرجفة من قلبى الى سائر جسدى حتى شعرت اننى قد تبعثرت كلية فوق مقعدى وطفوت فوق حدود المكان والمحيط والزمن ... البعض قد يعتبرها مصادفة ... والبعض قد يعتبرها رسالة من الرسائل العديدة التى تصلنا من الله ولا نفهمها الا برحمة من الله لا بأعمالنا ... والبعض قد لا تعنى له شيئاً على الإطلاق فببساطة يقوم بتجاهل الأمر برمته

كان أول ما تلا القارىء هو تلك الآيات من سورة مريم

وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّا ً(66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67)فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً (68) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً (70) وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْيا(74)ً قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً(76)