Saturday, June 30, 2007

هدية ... فى عيد ميلادى

الثلاثون من يونيه
يوم مثل كل الأيام
يوم عيد ميلادى
وحتى هذا لا يعد سبباً كافياً ليجعله يوماً مميزاً
أقضيه كبقية الأيام
قد أتوقف قليلاً فانظر لما كان من حياتى الماضية
واتساءل عما تراه يصير بحياتى القادمة
ثم إن اليوم ينتهى كما بدأ
كما يبدأ وينتهى أى يوم
وكل يوم
قليل من الشجن وكثير من الأمل
أمل فى غدٍ أفضل
فى شعور أفضل
فى "أنا" أفضل

لكن الثلاثون من يونيه هذا العام كان مختلفاً عن كل عام ... برغم من بدايته الأكثر من عادية ... بل برغم من بدايته السيئة نسبياً ... فقد خرجت من المنزل ومقصدى الأكاديمية ... فقد استعوضت الله فى يوم هادىء والاحتفال بعيد ميلادى مقابل قضاء اليوم باكمله فى تلقى المحاضرات ... أدرت محرك السيارة ... لا شىء ... اختارت سيارتى العزيزة يوم رائع لتضرب عن العمل ... قضيت نصف ساعة فى محاولات عقيمة لإدارتها حتى فقدت الأمل فتوجهت إلى ناصية الشارع لآخذ تاكسى ... طريق طويل من مدينة نصر إلى المهندسين ... الحرارة مرتفعة ونوافذ التاكسى لا تسمح بدخول هواء كافى ... ظننت انه بوصولى إلى الأكاديمية تنتهى المعاناة ... لكنى استيقظت من أحلامى على صوت فرملة قوية مع اندفاعى إلى الأمام ثم إلى الخلف مع اصطدام التاكسى بتاكسى آخر ظهر بالعرض أمامنا فجأة ... نزل السائق متجهم الوجه ... مصدوم ... إلا أنه – ولله الحمد – خيب توقعاتى فلم يتشاجر مع السائق الآخر ... ولكنه مضى يتفحص مقدمة سيارته بضيق شديد مما أنبأنى بفداحة خسارته ... أيقنت أنه لن يكمل بى مشوارى ... و على العموم كنت على مسافة قريبة من مقصدى فترجلت ونقدته أجره الذى كنت اتفقت معه عليه قبل الركوب وبالرغم من كونه أكثر مما يستحقه المشوار إلا أنى دفعته عن طيب خاطر تعاطفاً مع ما أبتلى به من خسارة ..

مضى اليوم الأكاديمى كالمعتاد ... بثقله وسخافته وصعوبته ... وخرجت من الأكاديمية وقد خيم الليل ... قررت أن استقل المواصلات العامة بدلا من التاكسى ... أحياناً أشعرباستعداد نفسى كبير للتحرك بالمواصلات العامة – أعنى الأتوبيسات - ... التواجد وسط الطبقات الكادحة التى اتخذت من هذه المركبات وطناً ... وطناً ليس بأحسن حالاً من هذا الوطن ...يدعونى إلى التأمل ... وراء كل وجه قصة شقاء وألم ... لا أعرف هل هذا الوجه استسلم لضغط الأوضاع السيئة لأيامه المتشابهة أم تعلو ذاك الوجه لمحة أمل فى مستقبل أفضل للطفل الذى يضمه اليه؟

ركبت مينى باص متوجه إلى رمسيس ... علبة سردين مكدسة بالبشر ... لا أحد يتأفف ... لا أحد يبدى إمتعاضه ... حقيبتى الكبيرة تخبط هذا فى كتفه ... وأدوس بالرغم عنى على قدم تلك ... لا أحد يتأفف ... لا أحد يبدى إمتعاضه ... فكلنا فى علبة السردين سوياً ... تزيح قدمك لتسمح لأحدهم بوضع قدمه ... أحدهم يحرك يديه مفسحاً لك رقعة من سطح الكرسى لتتخذها مسنداُ ... حوار صامت من الايماءات ... أنا أتفهم موقفك ... لم يحدث شىء ... ضع يدك هنا ... حوار صامت مضمونه بسيط : كلنا نعانى ... لذا فكلنا نتحمل ونتحامل على بعض.
أنزل فى رمسيس ... أقف برهة قليلة من الوقت ثم ما يلبث الباص المتوجه إلى مدينة نصر أن يصل ... على عكس الباص السابق ... لا أحد يقف ... وهناك مكان فارغ بين شابين على الكنبة الخلفية ... جلسة غير مريحة إطلاقاً ... هناك سيدة تجلس فى طرف الكنبة ومعها بنت وولد دون العاشرة ... وبنت أخرى أكبر منهما ببضع سنين ... كانت تقطع التذاكر عند صعودى ثم عادت إلى أمها تخبرها أن سعر التذكرة موحد – يبدو أن الأم أرادت أن تقطع نصف تذكرة للطفلين - ... نظرت إلى التذكرة فى يدى ... 110 قرش ... ما هذه السخافة؟ لماذا 10 قروش فوق الجنيه؟ أظن ما عاد هناك أحد يحمل هذه الفئة بعد! ... ثم أن ليس لها قيمة ... وفى الغالب ستجد أن السائق لا يملك "فكة" فتصير 125 قرش ... 15 قرش تبرع من المواطن لشركة النقل! ...
نزل راكبين من مقدمة العربة فجلست الفتاة – قاطعة التذاكر – على أحد الكرسيين ... انتهزت الفرصة لأتخلص من جلستى الغير مريحة وانتقلت بجانب الفتاة

مضت فترة طويلة ثم التفتت الفتاة إلىّ وسألت بصوت واثق يتعدى سنوات عمرها: "من فضلك, فاضل قد ايه على مكرم عبيد؟" ... نظرت فى ساعتى ... "حوالى تلت ساعة" ... ثم فكرت ان ألاطفها فابتسمت مضيفة "وراكى ميعاد؟" ... قالت بنفس الثقة السابقة لسنها "لازم اتصل أصحّى بابا ... عنده شغل" ... ابتسمت وأدرت وجهى معلنة نهاية الحديث ... لكنها استمرت "حضرتك اسمك ايه؟" ... رغم اندهاشى لجرأتها إلا أن شىء ما فيها جعلى أرغب فى مواصلة الحديث ... ربما هى عينيها البراقتين اللتان تفيضان ذكاءاً لا تدل عليه قلة حجمها ولا صغر سنها وخاصة ليس مستواها الاجتماعى ... أعطيتها الاسم وسألتها بالمثل ... "وفاء ... وبيقولولى بسنت" ... رأت نظرة التعجب فى عينى من مدى التباعد بين الاسمين فأومأت برأسها متفهمة وهمت بالايضاح ... لكنى بادرتها "حد كان عايز يسميكى وفاء وحد تانى كان عايز بسنت؟ " ... هزت رأسها موافقة ... ابتسمت وقلت مداعبة "ومين اللى كسب فى الآخر؟ بابا وللا ماما؟" ... ابتسمت ابتسامة وقورة تليق بنضوج عقلها الواضح وقالت "بابا" ... سكتنا فترة ثم فاجأتنى "الحكزمة دى مبهدلة قوى" ... قلت باستغراب "ليه بتقولى كده؟" ... "باعوا كل حاجة للشركات الأجنبية ... كل المواصلات ... واحنا اللى تعبانين فى كل ده" ... تذكرت التذكرة ذات ال 110 قرش ... أكملت بلهجة من يعى فعلاًََ ما يقول "زمان مكناش كده ... حتى الفول والطعمية ... الفول كان بتعريفة ... شوفى دلوقتى بقى بكام ... القمح كنا بنزرعه ... دلوقتى ما بنزرعش حاجة ... بنستورد قمح من بره" ... كانت صورتى الآن كما فى أفلام توم وجيرى ... عيناى جاحظتان قد خرجتا من مقلتيهما وأذناى كبرتا وتحولتا إلى سماعتين على شكل بوقين كبار وتدلى لسانى كالسجادة على الأرض ... داريت هذا كله فى عقلى الباطن وسألتها "انتى فى سنة كام؟" ... "أولى إعدادى" ... ردت لى السؤال "انتى جاية من الجامعة؟" ... "ايوه ... انتى بقى ساكنة فى مدينة نصر؟" .. "لا أنا مش من هنا خالص ... من الجيزة ... لكن جاية هنا زيارة" ... "منين من الجيزة؟" ... "حتة اسمها الصفط" ... تعرفت على الاسم ... منطقة من عشوائيات الجيزة ... تعجبت من وعيها ونضوجها برغم من تواضع حالها ... رغبت أن اتعرف عليها أكثر ... تذكرت أمراُ فسألتها "وعايزة تصحى باباكى ليه؟" ... "عشان يلحق شغله ... بيشتغل فى هيلتون" ... توقعت أن يكون بواب أو عامل نظافة ... إلا أنها أنبأتنى بشىء من الفخر "شيف" ... داعبتها "ياااه ... مش باين عليكى الأكل يعنى! بابا مش بيعملكوا أكل وللا ايه " ... هزت رأسها بالنفى بشىء من الشمم وبلهجة من يطلع طفل صغير على حقيقة خفية "لاااا ... إحنا صعايدة" ... "آه ... يعنى الراجل ميطبخش؟ ... طب ماما بتطبخ حلو زى بابا؟" ... "هزت رأسها مرة أخرى نافية بابتسامة "لا ... بابا ده درجة أولى" ... أعجبنى حبها الواضح لوالدها واعتزازها به وافتخارها بمهنته ... سألتها "وانتى بقى عايزة تبقى ايه لما تكبرى؟" ... نظرت إلى الأسفل بنوع من الخجل وقالت "هتقولى عليا بحلم" ... قلت مطمئنة "ليه؟ كل شىء جايز ... مين عارف!" ... فأكملت "أنا صوتى حلو .. مش أغانى وكلام من ده .. لأ ... بحب أقرأ قرآن ... بالذات سورة مريم ... أصل أنا ليا خال اسمه رجب .. كان عايش فى السعودية فترة ... وصوته جميل قوى ... لما يقرا تحسى البيت بيتهز كده من جمال صوته ... بالذات سورة مريم وسورة يوسف ... أنا بقى عايزة أبقى عالمة دين وعالمة فضاء فى نفس الوقت" ... برغم من ان كلامها يبدو ساذجاً إلا أنى تمنيت من كل قلبى أن أراها يوماً كذلك ...
سألتنى عن مجال دراستى ... وجدت صعوبة شديدة فى شرح معنى "برمجة" لها ... قالت ببراءة "يعنى زى المذيعين؟" ... ضحكت وسألتها "استخدمتى كمبيوتر قبل كده؟" ... وشعرت بالخجل عندما رأيت لمحة الحزن وتعبير وجه يقول "منين؟"! ... فأردفت بسرعة "مش عندكو فى المدرسة كمبيوتر؟" ... لم تتغير لمحة الخيبة فى وجهها وهى تقول "آه ... بس همّا مهملين فينا قوى فى المدرسة ... مبيدوناش حاجة" ... ثم انطلقت قائلة "أنا باخد دروس فى كل المواد ... ما عدا الانجليزى ... نفسى اتعلمه ... بقراه لكن مبفهمش حاجة ... نفسى حد يعلمنى لكن كله عايز فلوس ... كل اللى يهمهم فى المدرسة الفلوس الفلوس" ... لم أستطع أن أرد عليها ... لكنها أعفتنى بسؤالها "انتى معاكى لغات؟ " ... "آه ... انجليزى" ... "طب تعرفى تعلميه؟" ... شعرت انها تريدنى ان أعلمها ... لكن هذا مستحيل .. ان لم يكن لعدم قدرتى على التدريس وانشغالى الدائم فلأننا نعيش فى عالمين بعيدين كل البعد وصعب أن نتلاقى ... لكنى وودت جدياً أن أساعدها ... قلت لها "تعرفى ... فى المدرسة ناس كتير كانوا ضعاف فى الانجليزى رغم اننا كنا مدرسة لغات ... عشان كانوا بيكرهوا المادة ... لكن أنا كنت بحبها ... كنت أجيب قصص وأقعد أحاول أقراها .. أجيب قاموس وأحاول أفهم معانى الكلمات" ... فوجئت بها تسأل "يعنى ايه قاموس؟" ... برغم خيبة أملى ... ليس فيها ... بل فى نظام تعليمى غير عادل ... يصعب فيه على أمثالها ممن يرغبون حقاً فى العلم أن يحصلوا عليه لا لشىء إلا أنهم ولدوا فقراء ... داريت خيبة أملى عنها وشرحت لها معنى "قاموس" ... قلت لها "هاجيبلك قصص صغيرة وقاموس ... حاولى ... وإنتى وشطارتك ... مفيش حاجة صعبة طالما بنحبها وعايزينها" ... كلام إنشاء؟ لا ... رغبت أن أعطيها أمل ... أن أحثها على أن تصنع نفسها بنفسها ... أعرف أنها مميزة ... وتمتلك قدرة خاصة ... وددت لو طالت جلستنا وتكلمت معها أكثر ... لكن محطتى اقتربت ... أخرجت ورقة وقلم وبسرعة خطيت عليها رقم تليفونى واسمى وقلت لها "كلمينى كمان كام يوما ونتفق أوصلك الكتب إزاى" ... نزلت من الباص وعلى وجهى ابتسامة عريضة ...
كم أتمنى ان تكلمنى فعلاً

هذه الحادثة البسيطة ... لقائنا ... كان أجمل هدية تلقيتها يوماً فى عيد ميلادى ... غير أن عدداً آخر من الأحداث كان ينتظرنى هذه الليلة أدخل سعادة شديدة على قلبى ايضاً

أولهم كان مكالمة هاتفية من صديقتى العزيزة المغتربة فى أمريكا ... كنت أعرف انها ستتذكر عيد ميلادى فهو يوافق عيد ميلاد والدتها ايضا ... فكنت أنتظر اتصالها ... إلا ان ذلك لم يقلل أبداً من مدى سعادتى بسماع صوتها فى هذا اليوم ... كل سنة وانتى معانا فى مصر ان شاء الله

الحادث الثانى كان أغنية تلقيتها على المحمول وأنا فى الباص اياه .. أغنية "عقبالك يوم ميلادك" بصوت عبد الحليم ... أغنية راقية من زمن الفن الجميل تليق بالذوق الراقى المرهف لمرسلتها
Yomnita mi amor, te quiero mucho … tu es muy simpatica :)

الحادث الثالث ... والذى حرك مشاعرى بشدة ... كان عندما رن جرس الباب فى الحادية عشر مساءاً وفتحته لأجد اثنتين من صديقاتى لم أرهما منذ زمن ... انشغلنا كل فى عملها حتى اقتصرت علاقتنا على مكالمة تليفونية ربما كل بضعة أشهر ... وهناك أصدقاء تبقى فى القلب مهما كان الفراق والبعد الزمنى أو المكانى ... حتى لو انقطع السؤال ... هناك جزء منك يعرف بيقين تام أن الآخر يفتقده ويحمل ذكريات كثيرة عنك فى قلبه ايضاً ... وجدتهما تحملان باقة جميلة من الزهورومعها كارت صغير رقيق الكلمات على الرغم من بساطتها .. "كل سنة وأنت أجمل شيرين فى الدنيا كلها ... وحشتينا قوى"

حان وقت النوم الآن
أنام وأنا راضية
الحمد لله على كل نعمه
العيشة المنعمة
الأكل والملبس والمسكن
السيارة والتكييف والدش واللاب توب والموبايل
فغيرى لا يملك 110 قروش
ليذهب إلى عمله فى باص مكدس وجو خانق

أنام وأنا أحلم بوفاء/بسنت
ترى هل أراها يوماً فى التليفزيون
عالمة فضاء تتحدث الانجليزية بطلاقة؟

أنام وأنا راضية
الحمد لله على نعمة الأصدقاء
أصدقاء يتذكروننى لو انشغلت عنهم
يثقون فىّ ولوبعدت عنهم
يعطوننى الكثير ولو أعطيتهم القليل
وأهم من ذلك كله
يتقبلوننى كما أنا
ولأنى أنا
وهو شىء ليصعب
حتى علىّ أنا

5 comments:

sousou said...

يا الله!شوهاالحلى شو هى الهضامى.....بوست مهضوم كتيييييييير
و على رأى سامووووووو كل حد نقابله لازم نسأل نفسنا ربنا حطه فى طريقنا ليه؟؟
بس مش بس كدة,فكرة الهدية نفسها فكرة جميلة.....ربنا بيبعت لنا كل يوم هدية مش بس فى يوم عيد ميلادنا ,,,,بس محتاجة نفس صافية تستقبلها
مين بقى اللى أحلى حاجة فيه صفاء نفسه؟؟

صفاء/شرين أكيد كانت برضو هدية ل وفاء/بسنت

:)

يصبحك بنعيم الله said...

شرييو....البوست ده لمسني قووووووي لأني بحس ده كل يوم لما باشوف الناس وبأدخل فيهم ...وشوشهم...نظراتهم..أحلامهم إحباطاتهم ...تطلعاتهم ..تخيلي كل ده بتلاقيه في وقفة الواحد في الأوتوبيس أو قعدته يعني في الأحوال الكويسة...كله بيبان. وبجد لحظات التعارف السريعة دي أنا باعتبرها رسائل وإشارات...ساعات بتكون هدايا وساعات بتكون إنذارات....ميرسي عالبوست وعلي هديتك اللي قدمتيهالنا بمناسبة عيد ميلادك...كان واجب علينا والله. خلاص بقي هنضطر نشيلك بين إيدينا ونغني ونقوللك ملكة البوستات.

Anonymous said...

Cherioooo,

Very nice post! The girl touched me awi... I wish her a bright future..

we should feel people and interact with them as you did.. we shouldn't live in our own world w khalas...

Nice birthday gift :)

Anonymous said...

ياريتنا نقدر نزرع حلم و براءة وفاء في قلوب كل المصريين
يارب تتحقق أحلامها
و تتحقق أحلامك
و إن شاء الله تكون أيامك اللي جايه أحسن من اللي قبلها
و كل سنه و إنتي طيبه

Anonymous said...

بوست جميل و رقيق جدا :) الحقيقة أكتر حاجة عاجبتنى فى وفاء هى إنها مش عايزة تستخدم صوتها فى الغناء مثلا بالرغم من إنه أصبح أسهل طريق للشهرة للأسف.. مين بيسمع أصلا عن علمائنا و لا يعرف عنهم أى حاجة ... يارب تحقق وفاء أحلامها و انت كمان ان شاء الله :)
و بعدين مين قال إنى بافتكر يوم ميلادك علشان هو نفس يوم ميلاد ماما؟؟ مش جايز يكون العكس :)